من القائل إن الله مبتليكم بنهر

من القائل إن الله مبتليكم بنهر؟ حيث ذُكرت تلك الآية الكريمة في أواخر الجزء الثاني من القرآن الكريم في سورة البقرة وهي الآية رقم 249؛ فمن قائلها وما هي أسبابها وأحداثها والدروس المستفادة منها؛ حيث إن القرآن الكريم هو الهدى والبيان الذي لابد لنا أن نتخذ منه منهجًا لحياتنا ونتلقى العِبر منه؛ فالآن سنقص ما حدث وسنعرف من القائل إن الله مبتليكم بنهر من خلال موقع جربها.

من القائل إن الله مبتليكم بنهر

قال الله تعالى في كتابه العزيز (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) فالله عز وجل قد أنزل هذا القرآن العظيم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لكي نتعلم منه الدروس الحياتية؛ ففيه الأوامر والنواهي الشرعية وفيه أيضًا قصص الأمم من قبلنا قُصت علينا لنصغى إليها ونتعلم منها وموعدنا اليوم مع قصة بالغة الأثر ومتعددة الفوائد وهي قصة قوم من بني إسرائيل.

قد قيلت هذه الجملة لقوم من بني إسرائيل؛ فمن القائل إن الله مبتليكم بنهر إذًا؟ هل هو نبي الله الكريم موسى عليه السلام! لأن كلنا يعرف أن النبي موسى هو من بُعث في بني إسرائيل ولكن الإجابة لا؛ لم يكن سيدنا موسى هو القائل ولكن الملك طالوت من قال ذلك لجيش بني إسرائيل أثناء مسيرتهم لمقاتلة جيش العماليق وهو جيش جالوت؛ وما أن عرفنا من القائل فلنتعرف على أحداث قصة طالوت وجالوت إذًا.

اقرأ أيضًا: آيات قرآنية عن الأخلاق

أحوال بني إسرائيل بعد النبي موسى وقبل طالوت

بعد أن نجّا الله بني إسرائيل مع نبيهم موسى عليه السلام من فرعون وظلمه وشقّ لهم البحر وأغرق فرعون أمرهم سيدنا موسى عليه السلام بالتوجه نحو فلسطين وكان هذا حلم قديم لهم الدخول إلى الأرض المقدسة ولكن سيطر عليهم الضعف والخوف فرفضوا دخولها بحجة أن فيها قومًا ظالمين وهم الكنعانيون فحرم الله عليهم دخول هذه الأرض لمدة أربعين سنة عقابَا لهم.

توفي خلال هذه الفترة نبي الله موسى وأخوه هارون وجاء من بعدهما نبي الله يوشع وقاد بني إسرائيل وفتحوا بيت المقدس ودخلوا فلسطين ولكن عادوا للاعتراض على أوامر الله من جديد حيث أمرهم الله أن يدخلوا بيت المقدس ساجدين ويقولوا ربنا حُط عنا خطايانا فاستهزأ بعضهم بالأمر ودخل على قفاه وهو يقول حنطة حبة في شعرة فعاقبهم الله وأنزل عليهم الطاعون الذي قتل حوالي 20 ألف منهم.

تفرق بعد ذلك بنو إسرائيل في الشام وانفصلت النبوة عن الحُكم من بعد يوشع فأصبح يحكمهم الملوك ويُبعث إليهم بالنبيين لتجديد الدين الذي ضاع منهم؛ وأرسل الله تعالى لهم العديد من الرسل مثل إلياس وعزيز الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه مرة أخرى فجدد الإيمان لبني إسرائيل وعلمهم دينهم من جديد ثم إليسع؛ حتى اجتمع 3 أنبياء فيهم في آن واحد ولكن تعرض بنو إسرائيل للغزو وتفرقوا وأُخذ منهم تابوت فيه بقايا سيدنا موسى وهارون المقدسة.

اجتمع بنو إسرائيل من جديد بعد أن أرسل الله لهم النبي صموئيل أو شمونيل في رواية أخرى وطلبوا منه أن يختار لهم ملكًا يحاربون تحت قيادته وأوامره فيطردون أعدائهم ويستردون مقدساتهم فقال لهم صموئيل أنه سيسأل الله فاختار لهم الله طالوت ملكًا فعادوا لاعتراضهم والمجادلة مرة أخرى لأنه كان فقيرًا وهم يريدون ملك من أغنيائهم.
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (248) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (249)
فحاجهم النبي صموئيل بأن الله اصطفى طالوت حيث إنه ذو جسم قوي وعلم واسع والله يهب ملكه لمن يشاء وإن آية ملكه أن يأتيهم التابوت المقدس تحمله الملائكة فلما رأوا هذه الآية وافقوا عليه ملكًا وخرج بهم طالوت لقتال العماليق جيش جالوت.

قصة طالوت وجالوت

خرج مع الملك طالوت ثمانون ألف من بني إسرائيل وقيل أكثر وقيل أقل ولكن المؤكد أنه عدد كبير قد خرج لملاقاة جيش جالوت وهزيمتهم ولكن كما هو معروف عن بني إسرائيل أنهم قوم جدال وعصيان للأوامر وتمرد فأراد الملك طالوت أن يختبرهم ويعلم مدى طاعتهم له قبل الالتقاء بجيوش العدو وهذا من حكمته وعلمه.

لما أحس طالوت منهم العطش وضعهم أمام الاختبار وقال لهم إن الله مبتليكم بنهر وطلب منهم ألا يشربوا منه أو يشربوا القليل فقط بغرفة من يدهم وهو ما يكفي لإكمال الطريق؛ فشرب أغلبهم من النهر الكثير فعصوا الأمر ولم يثبتوا في أول اختبار لهم وعاد منهم ستة وسبعون ألفًا وهم الذين شربوا وتبقى أربعة آلاف فقط مع طالوت؛ وقال ابن عباس: من اغترف منه بيده روي، ومن شرب منه لم يرو.

كما قيل إن من تبقى ثلاثمائة وبضعة عشر فقط وهذا الصحيح حيث “أخبرنا عن البراء قال: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة.”  فعددهم كان مثل عدد المسلمين في غزوة بدر.

جاوز طالوت النهر مع ذلك العدد من بني إسرائيل فتزعزع إيمان بعضهم بالنصر بسبب قلة عددهم وقالوا إنهم لن يستطيعوا هزيمة العماليق بقيادة جالوت فقال المؤمنون الثابتون منهم أنهم غالبون بفضل الله ورغم قلة عددهم ودعوا الله أن يصبرهم ويثبتهم عند لقاء العدو فهزموهم بإذن الله وتوفيقه.

رغم أن في بداية المعركة تراجع جنود طالوت وتفرقوا وخرج جالوت للمبارزة فلم يخرج له أحد من بني إسرائيل فأعلن طالوت أنه سيزوج ابنته لمن يقاتل جالوت ويعطيه المُلك من بعده.

خرج نبي الله داود عليه السلام وكان مازال جندي صغير السن بجيش طالوت ومعه سلاح مقلاع يرمي به الحجارة؛ فرمى حجارة في جبهة جالوت فسقط ميتًا في الحال وانتصر بنو إسرائيل بعد ذلك وتزوج سيدنا داود عليه السلام ابنة الملك طالوت وأصبح ملكًا واجتمع فيه النبوة والمُلك من جديد من بعد يوشع.

اقرأ أيضًا: أسئلة دينية صعبة وإجاباتها

ومضات تفسيرية للآية الكريمة

تفسير الآيات الكريمة يتضمن بعض المعاني التي أوضحها القرآن الكريم في ضوء فهمنا لأحداث قصة طالوت وجالوت فقال الله تعالى:
(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (250) ) سورة البقرة.
قال الله تعالى “فلما فصل” والفصل يعني القطع وتُطلق على فصل من كتاب أو فصل به تلاميذ فمعناها أن تلك المجموعة متشابهة وتختلف عن غيرها وفصل طالوت بالجنود أي فصلهم عن غيرهم ممن لم يلتحقوا بالجيش من كبار السن أو من له عذر وخرج بهم.

حين قال “مبتليكم” يدل ذلك على الاختبار وألحق به النتيجة مباشرة حيث قال إن من سيشرب فليس منه أي سيرجع ولا يُكمل معه الحرب أما من لا يشربوا أو يشربوا شيئًا بسيطًا لسد عطشهم فهو منه؛ وكأنه أشفق عليهم من العطش الشديد فسمح لهم بشرب القليل؛ وقال “غرفة بيده” وليس بيديه أي بيد واحدة فقط دليل على قلة الكمية.

قوله “فشربوا منه إلا قليلًا منهم” دليل على الإصرار والعناد الذي يتصف به لأهل الباطل وأن قليلون فقط هم المؤمنون بحق؛ ولكن سرعان ما يهتز إيمان بعض ممن جاوز النهر مع طالوت فيشعرون بالخوف من جالوت وجنوده وهنا يثبت أقل القليل وهم الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم.

إن كلمة يظنون هنا تحتمل تفسيران: أولهما أنها بمعنى غالب الظن وليس اليقين وهذا في حالة أنهم يظنون أنهم سيُقتلون في المعركة وقد لا يعودوا وبذلك أغلب الظن أنهم سيلقون ربهم؛ أما التفسير الثاني فمعناها يحتمل اليقين فهم يظنون موقنين بلقاء ربهم يوم القيامة وأنهم إليه راجعون.

يقينهم بالله وإيمانهم الحقيقي هو الذي حقق لهم النصر وخلف الهزيمة لأعدائهم؛ فتمسكوا بالدعاء والثبات وكان بينهم نبي الله داود عليه السلام وبرز لجالوت فقتله وانهزم العماليق بفضل الله وليس بكثرة الأعداد.

اقرأ أيضًا: سبب نزول سورة الناس

الدروس المستفادة من قصة طالوت وجالوت

قصة طالوت وجالوت بها العديد من الحِكم والعِبر التي لابد لنا أن نعتبر بها ونتعلم منها، ومن هذه المعاني والخبرات التي نُقلت إلينا من القصة:

  • إننا لم نتعرف على من القائل إن الله مبتليكم بنهر فحسب؛ بل تعرفنا على شخصيته وحكمته واستفدنا من ذلك الكثير من الصفات التي يجب أن يتحلى بها القائد من علم وقوة وشجاعة وفراسة لمعرفة من حوله؛ وإن الله يختار ويصطفي من يصلح ويهب من يشاء بغير حساب.
  • الأمور لا تجري دائمًا بحسابات العقل وتوقعات البشر بل بمقادير الله تعالى؛ فطالوت لم يكن يملك مالًا ولا كان من علية القوم فكان فقيرًا ويعمل عملًا متواضعًا ولكنه أصبح ملكًا بين ليلة وضحاها؛ فلا تعتمد كثيرًا على الأسباب ولكن توكل على الله تجد ما لا تتوقعه من خير.
  •  طاعة أوامر الله أمر واجب وهو يورث العزة والنصر أما الاعتراض على أوامره والمجادلة بغير علم تقع بالإنسان في ظلمات الجهل والهزيمة وتعرضه لسخط الله والبلاء والتفرق.
  • لا تُعجبك الكثرة ولا تُغلبك؛ فالصابرون المؤمنون بالله هم الغالبون وإن كانوا قلة ولكن أكثر الناس يعاندون ويثبتون على الباطل وتجد الحق أهله قليل ومنهم من يعجز عن الاستمرار فيه أيضًا؛ كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (عجبت لجلّد الفاجر وعجز المؤمن) فاثبت على الحق ولا تعجز ولا تتراجع.

من القائل إن الله مبتليكم بنهر؟ سؤال أوضحت إجابته الكثير من الدروس العظيمة والحِكم البليغة التي نسأل الله تعالى أن ننتفع بها وإياكم وأن يُعلمنا من كلامه الهادي ما ينفعنا به في الحياة الدنيا وما بعدها.

قد يعجبك أيضًا